جلال الدين الرومي: الصوفي إمام الدين وعماد الشريعة

لا يمكن أن يغفل أحد اسم جلال الدين الرومي عندما نتحدث عن أعلام الصوفية. فهو شاعر صوفي فيلسوف استمر تأثيره على مر العصور. ولد بجذور فارسية، ولكنه عاش في تركيا، وكان أكثر ما يميز مولانا جلال الدين رؤيته العالمية التي تصل جميع البشر على اختلاف أشكالهم وألوانهم وألسنتهم.
قائمة المحتويات
جلال الدين الرومي
المولد والنشأة
يسمى محمد بن محمد بن حسين الخطيبي البلخي، وذلك نسبة إلى مولده في مدينة بلخ. وهي إحدى المدن الصغيرة التي تقع داخل جغرافية أفغانستان اليوم، وشهدت المدينة مولده في 6 ربيع الأول سنة 604 هـ الموافق 30 سبتمبر 1207 م. وكانت عائلة الرومي تشتهر بالعلم، وتربطهم علاقة نسب بـسلاطين الدولة الخوارزمية.
ولد الرومي لأب فقيه من فقهاء الحنفية عرف وسط علماء عصره بسلطان العلماء. وكان لا يخشى من كلمة الحق أمام الحكام، واشتهر بمواقفه ضد ظلم الأمراء.
الدراسة العلمية الأولى
بدأ تعليم جلال الدين الرومي للعلوم الدينية من داخل المنزل. حيث لم يبخل عليه والده بالعلم الذي تابعه على يد برهان الدين المحقق الترمذي أحد تلاميذ والده.
رحلة أسرة الرومي من بلخ إلى قونية
تعددت الروايات التي تحدثت عن ترك أسرة الرومي لمسقط رأسه بلخ عام 906 م. أحدها تتحدث عن المعارضة الشديدة من قبل والده لسلطان بلخ، فطلب منه الرحيل عن المدينة. والبعض يرجع الرحيل إلى هجمات المغول وسيطرتهم على المدينة؛ مما أجبر عائلته على تركها.
قام والد الرومي برحلة كبيرة داخل الأراضي الإسلامية قطعها من أفغانستان شرقا حتى الاستقرار في بلاد سلاجقة الروم غربا. مروراً ببغداد في العراق ومكة المكرمة في الحجاز.
لم تستقر أسرة جلال الدين في البداية في سلطنة سلاجقة الروم التي تقع الآن داخل الجغرافيا التركية. حيث تنقلت ما بين ملطية ثم قرمان، حتى استقرت في عاصمة السلطنة مدينة قونية. تلك المدينة التي أكسبت جلال الدين لقب “الرومي”.
جاء التحول الأول في حياة جلال الدين عندما فارق والده الحياة عام 626 ه وهو لا يزال صغير السن. ليجد نفسه وجها لوجه أمام وراثة مهنة والده فقيهاً واعظاً.
لم يكتف الرومي بما لديه من علوم شرعية، فرحل بعد 4 سنوات في رحلة دراسة إلى الشام سنة 630 هـ. وتنوعت العلوم التي حصلها هناك، فأخذ العلوم الدنيوية في حلب على يد الشيخ كمال الدين بن العديم. ومن ثم اتجه لدمشق حتى درس مبادئ الصوفية على يد الفيلسوف الصوفي الشيخ محيي الدين بن عربي وتلميذه الشيخ صدر الدين القونوي.
لم يعد جلال الدين إلى مدينته الأساسية قونية واعظاً من جديد إلّا بعد اعتراف أساتذته ومعلميه من أهل الشام بتفوقه وعبقريته بسبب معارفه بكلتا اللغتين العربية والفارسية. وبعد عودته كثر عدد تلاميذه بسبب سعة معرفته، وأطلقوا عليه العديد من الألقاب. ومنها إمام الدين وعماد الشريعة وسلطان العارفين بسبب غزارة علمه.
دور التبريزي في غرس الصوفية في جلال الدين الرومي
جاءت نقطة التحول الثانية في حياة جلال الدين الرومي، عندما التقى بشيخه في الصوفية الفارسي شمس الدين التبريزي. حيث صنع تغيّرات فكرية وسلوكية عند الرومي.
تبحر الرومي بمساعدة أستاذه التبريزي في علوم الصوفية. وبدأت الإبداعات الشعرية الصوفية تظهر من الرومي، وانسحب من الحياة العامة سواء من مجالسه الدينية مع تلاميذه أو الاجتماعية مع الناس، وانشغل بدراسة الصوفية.
يلخص الرومي تأثير التبريزي فيه بقوله شمس الدين التبريزي هو الذي أراني الحقيقة. وأدين له بـإيماني ويقيني، حيث غير مساره من فقيه وعالم دين شرعي إلى فيلسوف صوفي متبحر.
مذهب الرومي الصوفي

تميز الرومي بمذهب صوفي فلسفي متفرد. نتجت عن الثقافة الفارسية الخصبة في ذلك الوقت، التي شهدت إفراز العديد من أعمدة التصوف المسلمين آنذاك.
ويعتبر الرومي من أبناء المدرسة الفارسية الصوفية التي تهتم بالفكر والفلسفة عن الجوانب السلوكية والتربوية الأخرى. وهو ما ظهرت في دعوة الرومي الفلسفية في اللجوء إلى الخالق والفناء فيه.
ويعد أحد أسرار عبقرية الرومي وتفرده عن غيره من المتصوفة هو منهجه في إيصال آرائه الصوفية الفلسفية. مدعومة بمختلف الأدلة سواء الشرعية من آيات قرآنية وأحاديث نبوية، أو عقلية من قصص السابقين من العارفين والأولياء والشيوخ. أو حتى الأدبية مستعيناً بأشعار وحكم من سبقوه، تَبَعاً إلى الباحث المغربي محمد ناعم.
كما أكد ناعم أن الرومي تميز بالتنوع والتبحر في العديد من أصناف العلم فهو الفقيه المتمكن من العلوم الشرعية، أو العالم الملم بالعلوم العقلية، وتارة الصوفي، وفي وجه آخر هو الأديب رائع الأسلوب والشاعر رقيق الكلمات محكم البُنى.
الشاعر جلال الدين الرومي
شملت عبقرية وبراعة الرومي جوانب عديدة. فإذا تحدثنا عنه كشاعر، هو صاحب المذهب المثنوي في الشعر، الذي أفرز واحد من أبرز دواوينه المسمى مثنوي معنوي. حيث يسرد قصة العشق الإلهي الصوفية في مئات الآلاف من الأبيات الشعرية. ويتطرق داخل الديوان إلى قضايا وأسئلة فلسفية عديدة انتقد أصحابها في الغلو في تقدير العقل والحواس. ولذلك يعد مثنوي أكبر المراجع الصوفية الناطقة بالفارسية.
لم تظل أشعاره حبيسة الفارسية، بل طافت العالم وترجمت للغات عديدة من شرقه لغربه، وأبهرت قراءها المسلمين وغير المسلمين. ولذلك لا نستغرب حين نرى أن مولانا الرومي يسلب عقول أتباعه بالإنجليزية، ويقتنص لقب الشاعر الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة عام 2014.
مولد طريقة المولوية
أفرز أسلوب الرومي وآراؤه الصوفية طريقة صوفية في تركية تسمى “المولوية”. اشتق اسمها من اللقب التركي لهذا الصوفي العظيم وهو مولانا جلال الدين الرومي أو مولانا. وتميزت تلك الطريقة الصوفية برقصاتها الدائرية حول الذات. ورغم نشأتها داخل تركيا، إلا أنها انتشرت كالنار في الهشيم في جميع أنحاء العالم.
وفاة الرومي
كانت الحمى السبب المباشر في صعود روح الشاعر العظيم جلال الدين الرومي إلى خالقه في مدينة قونية التي شهدتها عبقريته وازدهاره، وذلك يوم 5 جمادى الآخرة عام 672 ه الموافق 17 ديسمبر 1273 م.
الدسائس والأكاذيب في سيرته
يوضح ناعم أن مشكلة الرومي ظهرت ممن كتبوا عنه، والذين حرفوا سيرته ووضعوا عنه ما لم يفعل ثم تحاملوا عليه. واشترك في ذلك عدة أطراف تبدأ بالمريدين المفتونين الذين رسموا هالة من القداسة حول الرومي، ونسجوها بخوارق وأساطير نسبوها كذبا إلى الرجل. وهي لا تتمازج مع ما حمله من مبادئ أو حتى ما جاء في الشرع أو يقبله المنطق. والجانب الآخر ممن حرف سيرته هم من قاصرين الفهم عن الصوفية في السبحة والانعزال وشعائر التكايا البعيدة كل البعد عن الإسلام. ليصبح الإنتاج الأخير لسيرته مضافاً إليه الكثير مما لم يفعله. بل وأحياناً ينكره الرومي إما عن زيادة في الحب أو بنية التشويه بدافع من الحقد.
مؤلفات الرومي

تنقسم مؤلفات الرومي إلى ما كتب شعرا أو نثرا، وتعود شهرته إلى إبداعاته الشعرية. على سبيل المثال ديوان شمس الدين التبريزي. وهي ألف بيت من الشعر نظمها وفاءً لأستاذه ليخلد داخلها اسمه ويرفع قدره. ومن ثم يصنع داخلها مشاهد حية من ذكرياته مع المعلم الذي غير مسار حياته.
ثم تأتي الرباعيات وهي عبارة عن 1959 بيتاً ترسم للسالكين الطريق إلى الله، وتجسدها كعلاقة حب بين عاشق ومعشوق.
بينما تأتي قطعته الأدبية الأروع في ديوان المثنوي والمسمى بـ مثنوي مولوي. الذي يحتوي بين دفتيه على 26 ألف بيت من الشعر الفارسي مقسمة إلى 6 أجزاء استغرقت كتابتها من الرومي 7 سنوات. تنضح منها آراء الرومي الصوفية والفلسفية، وأصبح واحد من روائع الأدب العالمي، وأضيفت إليها بعض الشروح باللغتين الفارسية والتركية. وترجمت أبياته للعديد من اللغات الأوروبية، سواء كاملاً أو أجزاء ومختارات منه.
يستمر إنتاج الرومي الغزير في النثر الذي لا يقل أهمية عن مؤلفاته الشعرية. حيث أنتج كتب مثل “المجالس السبعة” وهي تشرح سبعة من مجالس العلم للرومي بداية من الخطبة وانتهاء بقصصه وتفسيره للآيات والأحاديث وما جاء بها من عدة وعبرة. وكتاب “مكاتيب” وهو يحتوي على الرسائل التي كتبها الرومي إلى أتباعه وتلاميذه. وكتاب “فيه ما فيه” وهو عبارة عن مجموعة متنوعة من المحاضرات التي ألقاها على تلاميذه أو ردوده عن بعض التساؤلات في العديد من المناسبات.
الإبداعات الأدبية التي أنتجت حول الرومي
لم تنتهي أعمال وكتابات جلال الدين الرومي بما أبدعه بنفسه. ولكن ظل على مدى القرون مادة لعدد ضخم من الإبداعات التي شملت أبحاث ودراسات عنه، وترجمات وسير كتبت عن حياته وإنتاجه الأدبي. التي تنوعت ما بين الإنتاج الشرقي بالعربي والفارسي والتركي أو الكتب الأجنبية بالإنجليزية والفرنسية والألمانية.
الرومي بعيون السينما
لا تتوقف عجلة الإبداع عن هذا العبقري عند الكتب. بل كانت حياته ملهمة للعديد من الأفلام أبرزها “مولانا جلال الدين الرومي – حكاية عشق”.
ليلة شب عروس
تحتفل سنوياً المدينة التي عشقها الرومي وعشقته بذكرى وفاته فيما بين 7-17 ديسمبر. ويسميها مريدوه باللغة الفارسية شب عروس التي تعني ليلة العروس، ويصفها أتباعه باليوم الذي انتظره الرومي للعودة إلى خالقه.
تدوين “مثنوي معنوي” في منظمة اليونيسكو وأزمتها الدبلوماسية
كان جلال الدين الرومي سبب مشكلة دبلوماسية بين أفغانستان، وكل من تركيا وإيران. عندما اتفقت الدولتان الأخيرتان على تسجيل إبداعه الشعري الأبرز “مثنوي معنوي” كتراث ثقافي مشترك داخل أروقة اليونسكو. مما أثار الاحتجاج الأفغاني على الصعيدين الشعبي والرسمي. باعتبارها مسقط رأس المفكر العظيم، وولد في جغرافيا هذه البلد، وتعتبر إنتاجه ثروة عالمية لكل الشعوب.